سورة التوبة - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)}
{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عندَ الله وعندَ رسُولِه} تبيين للحكمة الداعية لما سبق من البراءة ولو أحقها والمراد من المشركين الناكثون لأن البراءة إنما هي في شأنهم، والاستفهام لإنكار الوقوع، ويكون تامة وكيف في محل النصب على التشبيه بالحال أو الظرف.
وقال غير واحد: ناقصة و(كيف خبرها وهو واجب التقديم لأن الاستفهام له صدر الكلام و{المشركين} متعلق بيكون عند من يجوز عمل الأفعال الناقصة بالظروف أو صفة لعهد قدمت فصارت حالًا و{عِندَ} أما متعلق بيكون على ما مر أو بعهد لأنه مصدر أو حذوف وقع صفة له، وجوز أن يكون الخبر {للمشركين} و{عِندَ} فيها الأوجه المتقدمة، ويجوز أيضًا تعلقها بالاستقرار الذي تعلق به {لّلْمُشْرِكِينَ} أو الخبر {عَندَ الله} وللمشركين إما تبيين كما في سقيا لك فيتعلق قدر مثل أقول هذا الإنكار لهم أو متعلق بيكون وأما حال من عهد أو متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، ويغتفر تقدم معمول الخبر لكونه جارًا ومجرورًا، و{كَيْفَ} على الوجهين الأخيرين شبيهة بالظرف أو بالحال كما في احتمال كون الفعل تامًا وهو على ما قاله شيخ الإسلام الأولى لأن في إنكار ثبوت العهد في نفسه من المبالغة ما ليس في إنكار ثبوته للمشركين لأن ثبوته الرابطي فرع ثبوته العيني فانتفاء الأصل يوجب انتفار الفرع رأسًا وتعقب بأنه غير صحيح لما تقرر أن انتفاء مبدأ المحمول في الخارج لا يوجب انتفاء الحمل الخارجي لاتصاف الأعياف بالاعتباريات والعدميات حتى صرحوا بأن زيدًا عمى قضية خارجية مع أنه لا ثبوت عينًا للعمى وصرحوا بأن ثبوت الشيء للشيء وإن لم يقتض ثبوت الشيء الثابت في ظرف الاتصاف لكنه يقتضي ثبوته في نفسه ولو في محل انتزاعه، وتحقيق ذلك في محله نعم في توجيه الإنكار إلى كيفية ثبوت العهد من المبالغة مال يس في توجيهه إلى ثبوته لأنه إذا انتفى جميع أحوال وجود الشيء وكل موجود يجب أن يكون وجوده على حال فقد انتفى وجوده على الطريق البرهاني أي في أي حال يوجد لهم عهد معتد به عند الله تعالى وعند رسوله صلى الله عليه وسلم يستحق أن يراعى حقوقه ويحافظ عليه إلى تمام المدة ولا يتعرض لهم بحسبه قتلًا وأخذًا.
وتكرير كلمة عند للإيذان بعدم الاعتداد عند كل من الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام على حدة {إِلاَّ الذين عاهدتم} وهم المستثنون فيما سلف والخلاف هو الخلاف والمعتمد هو المعتمد، والتعرض لكون المعاهدة {عِندَ المسجد الحرام} لزيادة بيان أصحابها والأشعار بسبب وكادتها، والاستثناء منقطع وهو عنى الاستدراك من النفي المفهوم المفهوم من الاستفهام الانكاري المتبارد شموله بجميع المعاهدين ومحل الموصول الرفع على الابتداء وخبره مقدر أو هو {فَمَا استقاموا لَكُمْ فاستقيموا لَهُمْ} والفاء لتضمنه معنى الشرط على ما مر و{مَا} كما قال غير واحد إما مصدرية منصوبة المحل على الظرفية بتقدير مضاف أي فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم وإما شرطية منصوبة المحل على الظرفية الزمانية أي أي زمان استقاموا لكم فاستقيموا لهم وهو أسلم من القيل صناعة من الاحتمال الأول على التقدير الثاني، ويحتمل أن تكون مرفوعة المحل على الابتداء وفي خبرها الخلاف المشهور واستقيموا جواب الشرط والفاء واقعة في الجواب، وعلى احتمال المصدرية مزيدة للتأكيد.
وجوز أن يكون الاستثناء متصلًا ومحل الموصول النصب أو الجر على أنه بدل من المشركين لأن الاستفهام عنى النفي، والمراد بهم الجنس لا المعهودون، وأيا ما كان فحكم الأمر بالاستقامة ينتهى بانتهاء مدة العهد فيرجع هذا إلى الأمر بالاتمام المار خلا أنه قد صرح هاهنا بما لم يصرح به هناك مع كونه معتبرًا فيه قطعًا وهو تقييد الاتمام المأمور به ببقائهم على ما كانوا عليه من الوفاء، وعلل سبحانه بقوله تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} على طرز ما تقدم حذو القذة بالقذة.


{كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)}
{كَيْفَ} تكرير لاستنكار ما مر من أن يكون للمشركين عهد حقيق بالمراعاة عند الله تعالى وعند رسوله صلى الله عليه وسلم، وقيل: لاستبعاد ثباتهم على العهد وفائدة التكرار التأكيد والتمهيد لتعداد العلل الموجبة لمالا ذكرل لا خلال تخلل ما في البين بالارتباط والتقريب؛ وحذف الفعل المستنكر للايذان بأن النفس مستحضرة له مترقبة لورود ما يوجب استنكاره، وقد ثر حذف الفعل المستفهم عنه مع كيف ويدل عليه بجملة حالية بعده، ومن ذلك قوله كعب الغنوي يرثي أخاه أبا المغوار:
وخبر تماني أنما الموت في القرى *** فكيف وهاتا هضبة وقليب
يريد فكيف مات والحال ما ذكر، والمراد هنا كيف يكون لهم عهد معتد به عند الله وعند رسوله عليه الصلاة والسلام {وَ} حالهم أنهم {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ} أي يظفروا بكم {لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلًا وَلاَ ذِمَّةً} أي لم يراعوا في شأنكم ذلك، وأصل الرقوب النظر بطريق الحفظ والرعاية ومنه الرقيب ثم استعمل في مطلق الرعاية، والمراقبة أبلغ منه كالمراعاة، وفي نفي الرقوب من المبالغة ما ليس في نفيهما، وما ألطف ذكر الرقوب مع الظهور و{الال} بكسر الهمزة وقد يفتح على ما روي عن ابن عباس الرحم والقرابة وأنشد قول حسان:
لعمرك إن الك من قريش *** كال السقب من رأل النعام
وإلى ذلك ذهب الضحاك، وروي عن السدى أنه الحلف والعهد، قيل: ولعله بهذا المعنى مشتق من الأل وهو الجوار لأنهم كانوا إذا تحالفوا رفعوا أصواتهم ثم استعير للقرابة لأن بين القريبين عقدا أشد من عقد التحالف، وكونه أشد لا ينافي كونه مسبهًا لأن الحلف يصرح به ويلفظ فهو أقوى من وجه آخر وليس التشبيه من المقلوب كما توهم، وقيل: مشتق من ألل الشيء إذا حدده أو من أل البرق إذا لمع وظهر ووجه المناسبة ظاهر.
وأخرج ابن المنذر. وأبو الشيخ عن عكرمة. ومجاهد أن الال عنى الله عز وجل، ومنه ما روي أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه قرئ عليه كلام مسيلمة فقال لم يخرج هذا من أل فأين تذهب بكم؟ قيل: ومنه اشتق الال عنى القرابة كما اشتقت الرحمن من الرحمن، والظاهر أنه ليس بعربي إذ لم يسمع في كلام العرب ال عنى اله. ومن هنا قال بعضهم انه عبري ومنه جبرال: وأيده بأنه قرئ إيلا وهو عندهم عنى الله أو الإله أي لا يخافون الله ولا يراعونه فيكم. والذمة الحق الذي يعاب ويذم على اغفاله أو العهد، وسمي به لأن نقضه يوجب الذم، وهي في قولهم في ذمتي كذا محل الالتزام ومن الفقهاء من قال: هو معنى يصير به الآدمي على الخصوص أهلا لوجوب الحقوق عليه، وقد تفسر بالأمان والضمان وهي متقاربة، وزعم بعضهم أن الال والذمة كلاهما هنا عنى العهد والعطف للتفسير، ويأباه إعادة لا ظاهرًا فليس هو نظير:
فالفي قولها كذبا ومينا ***
فالحق المغايرة بينهما، والمراد من الآية قيل: بيان أنهم اسراء الفرصة فلا عهد لهم، وقيل: الإرشاد إلى أن وجوب مراعاة حقوق العهد على كل من المتعاهدين مشروط راعاة الآخر لها فإذا لم يراعها المشركون فكيف تراعونها فهو على منوال قوله:
علام تقبل منهم فدية وهم *** لا فضة قبلوا مناولا ذهبا
ولم أجد لهؤلاء مثلا من هذه الحيثية المشار إليها بقوله سبحانه: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا} إلخ إلا أناسا متزينين بزي العلماء وليسوا منهم ولا قلامة ظفر فافهم معي وحسبي الله وكفى على هذا الطرز فرفعهم الله تعالى لا قدرًا وحطهم ولا حط عنهم وزرًا وقوله سبحانه: {يُرْضُونَكُم بأفواههم وتأبى قُلُوبُهُمْ} استئناف للكشف عن حقيقة شؤونهم الجلية والخفية دافع لما يتوهم من تعليق عدم رعاية العهد بالظفر أنهم يراعونه عند عدم ذلك حيث بين فيه أنهم في حالة العجز أيضًا ليسوا من الوفاء في شيء وإن ما يظهرونه أخفاهم الله تعالى مداهنة لا مهادنة، وكيفية ارضائهم المؤمنين أنهم يبدون لهم الوفاء والمصافاة ويعدونهم بالإيمان والطاعة ويؤكدون ذلك بالأيمان الفاجرة والمؤمن غر كريم إذا قال صدق وإذا قيل له صدق ويتعللون لهم عند ظهور خلاف ذلك بالمعاذير الكاذبة.
وتقييد الارضاء بالأفواه للإيذان بأن كلامهم مجرد ألفاظ يتفوهون بها من غير أن يكون لها مصداق في قلوبهم، وأكد هذا ضمون الجملة الثانية وزعم بعضهم أن الجملة حالية من فاعل {يَرْقُبُواْ} لا استئنافية، ورد بأن الحال تقتضي المقارنة والارضاء قبل الظهور الذي هو قبل عدم الرقوب الواقع جزاء فاين المقارنة، وأيضًا أن بين الحالتين منافاة ظاهرة فإن الارضاء بالافواه حالة إخفاء الكفر والبغض مداراة للمؤمنين وحالة عدم المراعاة والوقوف حالة مجاهدة بالعداوة لهم وحيث تنفيا لا معنى لتقييد إحداهما بالأخرى {وَأَكْثَرُهُمْ فاسقون} خارجون عن الطاعة متمردون لا عقيدة تزعهم ولا مروءة تردهم وتخصيص الأكثر لما في بعض الكفرة من التحامي عن العذر والتعفف عما يجر أحدوثة السوء، ووصف الكفرة بالفسق في غاية الذم.


{اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9)}
{اشْتَرَوْاْ بئايات الله} أي المتضمنة للأمر بايفاء العهود والاستقامة في كل أمر أو جميع آياته فيدخل فيها ما ذكر دخولًا أوليًا، والمراد بالاشتراء الاستبدال، وفي الكلام استعارة تبعية تصريحية ويتبعها مكنية حيث شبهت الآيات بالشيء المبتاع، وقد يكون هناك مجاز مرسل باستعمال المقيد وهو الاشتراء في المطلق وهو الاستبدال على حد ما قالوا في المرسن أي استبدلوا بذلك {ثَمَنًا قَلِيلًا} أي شيئًا حقيرًا من حطام الدنيا وهو أهواؤهم وشهواتهم التي اتبعوها والجملة كما قال العلامة الطيبي مستأنفة كالتعليل لقوله تعالى: {وَأَكْثَرُهُمْ فاسقون} [التوبة: 8] فيه أن من فسق وتمرد كان سببه مجرد اتباع الشهوات والركون إلى اللذات، وفسر بعضهم الثمن القليل بما أنفقه أبو سفيان من الطعام وصرفه إلى الاعراب {فَصَدُّواْ} أي عدلوا وأعرضوا على أنه لازم من صد صدودًا أو صرفوا ومنعوا غيرهم على أنه متعد من صده عن الأمر صدا، والفاء للدلالة على أن اشتراءهم أداهم إلى الصدود أو الصد {عَن سَبِيلِهِ} أي الدين الحق الموصل إليه تعالى، والإضافة للتشريف، أو سبيل بيته الحرام حيث كانوا يصدون الحجاج والعمار عنه، فالسبيل إما مجاز وإما حقيقة، وحينئذ إما أن يقدر في الكلام مضاف أو تجعل النسبة الإضافية متجوزًا فيها {إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي بئس ما كانوا يعملونه أو عملهم المستمر، والمخصوص بالذم محذوف.
وقد جوز أن يكون كلمة ساء على بابها من التصرف لازمة عنى قبح أو معتدية والمفعول محذوف أي ساءهم الذي يعملونه أو عملهم، وإذا كان جارية مجرى بئس تحول إلى فعل بالضم ويمتنع تصرفها كما قرر في محله.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8